فغضبت من ذلك وعلم عليّ بن عيسى بحضورها وانصرافها، فأمر أن تلتمس ويعتذر إليها لترجع، فأبت أن تعود، وصارت إلى المقتدر والسيّدة، فأغرت به وتخرّصت عليه الأحاديث، فصرفه المقتدر بالله وقبض عليه غداة الاثنين لثمان خلون من ذي الحجّة سنة أربع وثلاثمائة عند ركوبه إلى دار الخلافة، ولم يعرض لشيء من أملاكه وضياعه وضياع أسبابه، ولا لأحد من أولاده، واعتقل عند زيدان القهرمانة. فلمّا كان سنة سبع وثلاثمائة حمل يوسف بن أبي الساج على جمل من باب الشمّاسية وأدخل بغداد مشهرا، على رأسه برنس وبين يديه الجيش إلى أن وصل إلى دار السلطان ووقّف بين يدي المقتدر، ثم حبس في دار السلطان في يد زيدان القهرمانة، ووسّع عليه ثم خلع على مونس وطوّق وسوّر وخلع على جماعة من قوّاده وزيد الرجّالة نصف دينار لكلّ واحد في الشهر. وقال: أفضل منظف دواليب المطبخ الالمنيوم احذروا نفار النعمة فإنها نوار وليس كل شارد بمردود ولا كل ناد بمصروف وقال علي بن أبي طالب: ابواب المنيوم سحاب داخلي قلما أدبر شيء فأقبل.
فلمّا ولى أبو عليّ الخاقاني الوزارة ثم عليّ بن عيسى، طمع فأخّر أكثر المال الذي كان يقاطع عليه، واجتمع له من ذلك ما قوى به وحمله على العصيان. فلمّا تبيّن ابن فرجويه دفع غريب ونصر عن عليّ بن عيسى، كتب رقعة بخطّه إلى المقتدر، يذكر فيها أنّه إن صرف عليّ بن عيسى عن الوزارة، وقلّد مكانه عليّ بن محمّد ابن الفرات، أطلق للولد والحرم والحشم ولمن بالحضرة من تفاريق الفرسان مثل ما كان يطلقه في أيّام وزارته الأولى على التمام والكمال والإدرار، وأن يوفّر بعد ذلك من مال مصادرات العمّال ومال مرافقهم والاستثبات في النواحي في كلّ شهر من شهور الأهلّة خمسة وأربعين ألف دينار. فلمّا خرج مونس إلى مصر لمحاربة العلوي صاحب المغرب، تمكّن ابن فرجويه من الجدّ في السعى على عليّ بن عيسى، وكان غريب الخال ونصر الحاجب يدفعان عن عليّ بن عيسى لمّا غاب مونس. وكان أبو عليّ بن مقلة متعطّلا في أيّام وزارة الخاقاني، وعليّ بن عيسى ملازما منزله واستتر أيّام الخاقاني، ثم آمنه عليّ بن عيسى، فلزم منزله فشكر له ابن الفرات واختصّ به لهذه الحال. فواقف المقتدر ابن الفرات على هذه الرقعة، فذكر أنّ جميع ما تضمّنته صحيح، وبذل خطّه بضمانه جميع ذلك.
فلمّا قرب منها انصرف عنها محمّد بن عليّ صعلوك، وهرب إلى نواحي خراسان، وكان محمّد بن عليّ هذا متغلّبا على هذه النواحي، ثم قاطع عن الضياع والخراج مقاطعة خفيفة ولم يف بذلك أيضا. وإسماعيل بن يحيى المزني أحد رواة الحديث عن الشافعي من أهل مصر، وقد ترجمناه في طبقات الشافعيين. توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن أربع أو خمس وتسعين سنة، رحمه الله. وقبض على أبي عليّ الخاقاني وتتبّع أسبابه، وألزم جميعهم مصادرة ثانية أدّوها، وطالب العمّال المصروفين بالمصادرة وأن يظهروا المرافق ويؤدّوها، ونصب ديوانا للمرافق، وكان ضمن للمقتدر ووالدته من هذه الجهة كلّ يوم ألفا وخمسمائة دينار، وكانت تنسب إلى مال الخريطة، فكان يحملها ولا يمكنه الإخلال بها وكان منها للمقتدر في كلّ يوم ألف دينار، وللسيّدة في كلّ يوم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون دينارا، وثلث، وللأميرين أبي العبّاس وهارون ابني المقتدر في كلّ يوم مائة وستّ وستّون دينارا وثلثا. من قرى الفيوم لها ذكر في ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر وذكر لي بمصر أنهما من عمل البهنسا من نواحي مصر وهما متجاورتان.
وكان ابن الفرات قد اتّسع بما كان استسلفه عليّ بن عيسى من الخراج، فإنّه قد كان جبى قطعة منه قبل الافتتاح وابتدأ بذلك قبل صرفه بعشرة أيّام، وأعدّ المال في بيت المال لينفقه في العيد في إعطاء الحشم والفرسان والأتراك، فقويت نفس ابن الفرات به وانضاف إلى ذلك جملة عظيمة راجت له من مال المصادرات والضمانات، وأموال سفاتج وردت من فارس وإصبهان ونواحي المشرق في درج كتب بحمول كتبت على أنها تصل إلى عليّ بن عيسى، فأطلق جميع ذلك في الفرسان والحشم والخدم ومهمّ النفقات. وكتب ابن الفرات عن المقتدر بالله وعن نفسه إلى ابن أبي الساج في هذا المعنى أغلظ كتب وتوعّده، وأنفذ إليه من الحضرة لمحاربته خاقان المفلحى، وضمّ إليه الرجال، وأنفذ بعده عدّة من القوّاد مددا له وأنفق الأموال فيهم. وقدم مونس الخادم من الثغر، فندب لحرب ابن أبي الساج وشخص إليه، وكتب إلى جميع القوّاد في طريقه بالانضمام إليه واستأمن إليه أحمد ابن عليّ صعلوك فأحسن قبوله، وصرف خاقان المفلحى عمّا كان إليه من أعمال الجبل، وقلّد مكانه نحرير الصغير. أظهر أنّ عليّ بن عيسى أنفذ إليه اللواء والعهد عن المقتدر بالله بتقليده أعمال الحرب بالريّ وقزوين وأبهر وزنجان قبل صرفه عن الوزارة، وسار مبادرا إليها. وكان المقتدر يواقف ابن الفرات على تلك الرقاع، فيعرّفه أنّ ابن فرجويه خبر بالأمور، وأنّه صادق في كلّ ما ذكره فيهم المقتدر بصرف عليّ بن عيسى، فإذا شاور مونسا في ذلك أشار عليه أن لا يفعل.
